ذكريات طفل صائم

                 الصيام الأول

                             ذكريات طفل صائم


أيقظتني أمي الحبيبة في الثالثة ليلا لتناول وجبة السحور، بعد أن ألححت عليها في السؤال أن توقظني وقت السحور، فقمت فغسلت يدي ووجهي، وجلست أنا وإخوتي على زربية قروية تقليدية نسجتها أمي من قطع الملابس البالية الممزقة، تحلقنا حول المائدة الخشبية المستديرة والصغيرة، التي وضعت عليها صينية عليها إبريق شاي كبير ساخن حوله كؤوس زجاجية صغيرة وبجانب هذه الصينية صحن خزفي رسمت عليه صورة طاووس،  وعليع خبز بلدي ساخن مبلل بزيت الزيتون، مطهو في مقلات طينية على نار هادئة وقودها روث الأغنام و جدور النباتات الجافة، قبل أذان الفجر بساعتين أو ثلاث.


كنا نأكل كسرة الخبز ثم  نشرب بعدها جرعة من  الشاي الساخن، و كانت أمي تتكلف بالمهمة الصعبة التي يخشاها الجميع ألا وهي صب الشاي  في الكؤووس وتمريرها على الجالسين أثناء تناول الطعام،  بينما نستمع لدروس تفسير سورة البقرة في مذياع والدي العزيز، دروس جميلة كان يقدمها الفقيه المغربي المكي الناصري رحمه الله تعالى بصوته الرخيم و نغمته المميزة وأسلوبه الجذاب، الذي كا يتبعه غالبا منشد ينشد شعر الإبتهالات والمناجات، وحينها يقوم الوالد إلى المسجد حاملا في يده المذياع في إنتظار سماع آذان الرباط سلا وما جاورهما.


في الصباح الباكر حملت حقيبة كتبي الثقيلة على ظهري المقوس وقطعت الطريق المعبد إلى مدرسة القرية المجاورة والبعيدة عن قريتي بثلاث كيلومترات، قطعت الطريق مشيا على الأقدام.


لما علم أصدقائي بصيامي انقسموا إلى فريقين فريق مصدق وفريق مكذب، بل  رموني شزرا وتهكم بي البعض  وربما طلب مني بعضهم إخراج لساني إمتحانا لصيامي، وقال البعض الآخر بأني إرتقيت مرتقى صعبا، وبأن الصيام عمل لايطيقه إلا الكبار، أم الصغار فلا يحسنون شيئا غير اللعب، وأني لن أقدر على صيام اليوم كاملا.


كنت أسمع من حين لآخر، كلمات من هنا وهنا، يقول لي أصحابها: أفطر اليوم وكل واشرب كما تشاء، فإنك ما تزال صغيرا على الصيام، فإنه إن يدركك  رمضان فلن يدع لك يوما واحدا.


ونصحني أحدهم نصيحة غريبة عجيبة، بأن لا أبلع ريقي، لأن ذلك من المفطرات، فكنت في كل مرة وحين أبصق ريقي، وشق علي ذلك وكدت أصدق كلامهم وأفطر لولا أن سألت أحد الأقارب، وكان صائما، فأخبرني بأن هذا غير ممكن وغير صحيح بتاتا، فاطمأن قلبي، وسررت بذلك،وادخرت وجبة طعام الغذاء التي أعطيتها في مطعم المدرسة إلى وقت الإفطار، وما هذه الوجبة إلا نصف خبزة صغيرة  بداخلها سردين معلب.


إقترب الغرور  وآذنت الشمس بالرحيل إلى مستقرها، فأعدت أمي الغالية مائدة الإفطار، فوضعت عليها قدحا معدنيا كبيرا به الحريرة وهي حساء لذيذ يصنع من الدقيق والحمص ومربى الطماطم الذي يلون الحساء بالأحمر، ومكونات أخرى يعرفها المغاربة، وبجانب القدح أكفئت أكوابا خزفية  مع ملاعق خشبية، ووضعت في صحن صغير تمرا و بقربه كأس كبير من حليب البقر، وماهي إلا دقائق معدودة حتى  أذن مؤذن  المغرب معلنا الصائمين أن يوم الصيام وأن وقت الفرح قد آن، فأكلت حتى شبعت وشربت حتى ارتويت وذهب كل ما كان بي من جوع وعطش، وفرحت بأني صرت من زمرة الكبار الذين يصبرون على الجوع والعطش، وإنما النصر صبر ساعة.


والحمد لله، أكملت صيام ذلك اليوم، من أيام الشتاء البارد، فكان صيامه غنيمة سهلة، وخيبت ظن المكذبين.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة رواية( إيناس ) للدكتور إياد قنيبي

رسالة تلميذ إلى معلمه

مغالطات التنمية الذاتية